انطباق آياته علي ما يكتشفه العلم من نظريات علمية: القرآن أنزله الله علي رسول ليكون حجة له ودستوراً للناس، ليس من مقاصده الأصلية أن يقرر نظريات علمية في خلق السموات والأرض وخلق الإنسان وحركات الكواكب وغيرها من الكائنات، ولكنه في مقام الاستدلال علي وجود الله ووحدانيته وتذكير الناس بآلائه ونعمه، ونحو هذا من الأغراض، جاء بآيات تفهم منها سنن كونية ونواميس طبيعية، كشف العلم الحديث في كل عصر براهينها، ودل علي أن الآيات التي لفتت إليها من عند الله، لأن الناس ما كان لهم بها من علم، وما وصلوا إلي حقائقها وإنما كان استدلالهم بظواهرها، فكلما كشف البحث العلمي سنة كونية وظهر أن آية في القرآن أشارت إلي هذه السنة قام برهان جديد علي أن القرآن من عند الله، وإلي هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه بقوله في سورة فصلت: { قُلْ أَرَأَيتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آياتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّي يتَبَينَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَي كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 52،53).
ومن هذه الآيات قوله تعالي في سورة النمل في مقام الاستدلال علي قدرته ولفت النظر إلي آثاره: {وَتَرَي الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِي تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيءٍ } (النمل: 88) وقوله تعالي: { وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَوَاقِحَ } (الحجر: 22)، وقوله : {أَوَلَمْ يرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيءٍ حَي } (الأنبياء:30)، وقوله: { مَرَجَ الْبَحْرَينِ يلْتَقِيانِ * بَينَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يبْغِيانِ } (الرحمن:19:20)، وقوله: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (الأنبياء:12:14).
وبعض الباحثين لا يرتضون الاتجاه إلي تفسير آيات القرآن بما يقرره العلم من نظريات ونواميس، وحجتهم أن آيات القرآن لها مدلولات ثابتة مستقرة لا تتبدل، والنظريات العلمية قد تتغير وتتبدل، وقد يكشف البحث الجديد خطأ نظريات قديمة، ولكنني لا أري هذا الرأي لأن تفسير آية قرآنية بما كشفه العلم من سنن كونية ما هو إلا فهم للآية بوجه من وجوه الدلالة علي ضوء العلم، وليس معني هذا أن الآية لا تفهم إلا بهذا الوجه من الوجوه، فإذا ظهر خطأ النظرية ظهر خطأ فهم النظرية علي ذلك الوجه لا خطأ الآية نفسها، كما يفهم حكم من آية ويتبين خطأ فهمه بظهور دليل علي هذا الخطأ.
وثالثها: إخباره بوقائع لا يعلمها إلا علام الغيوب: أخبر القرآن عن وقوع حوادث في المستقبل لا علم لأحد من الناس بها، كقوله تعالي: {الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَي الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ} (الروم: 1: 4) وقوله سبحانه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ } (الفتح: 27).
وقص بالقرآن قصص أمم بائدة ليست لها آثار ولا معالم تدل علي أخبارها، وهذا دليل علي أنه من عند الله الذي لا تخفي عليه خافية في الحاضر والماضي والمستقبل، وإلي هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه بقوله:{تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيبِ نُوحِيهَا إِلَيكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } (هود: 49).
ورابعها: فصاحة ألفاظه وبلاغة عباراته وقوة تأثيره: ليس في القرآن لفظ ينبو عن السمع أو يتنافر مع ما قبله أو ما بعده، وعباراته في مطابقتها لمقتضي الأحوال في أعلي مستوي بلاغي، ويتجلي هذا في تشبيهاته وأمثاله وحججه ومجادلاته وفي إثباته للعقائد الحقة وإفحامه للمبطلين وفي كل معني عبر عنه وهدف رمي إليه ، وحسبنا برهانا علي هذا شهادة الخبراء من أعدائه واعتراف أهل البيان والبلاغة من خصومه، والإمامان : الزمخشري في تفسيره الكشاف، وعبد القاهر في كتابه "دلائل الإعجاز" و "أسرار البلاغة" تكفلا ببيان كثير من وجوه الفصاحة والبلاغة في آيات القرآن، وأما قوة تأثيره في النفوس وسلطانه الروحي علي القلوب، فهذا يشعر به كل منصف ذي وجدان، وحسبنا برهانا علي هذا أنه لا يمل سماعه ولا تبلي جدته، وقد قال الوليد بن المغيرة وهو ألد أعداء الرسول: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر" والحق ما شهدت به الأعداء.