هل كانت مصادفة أن يلقي أردوغان خطابه في مسرح الأوبرا في القاهرة أثناء زيارته الأخيرة؟ وزادت المصادفة سخرية بأن ظهرت صورة أردوغان، وهو يلقي خطابه رافعاً يديه الاثنتين في حركة تشبه قائد الأوركسترا. هذه الصورة الكاركاتورية عبرت عن حال التيارات الإسلامية، التي تباهت بنموذج حزب العدالة والتنمية الذي يقوده مسلم، ولم يرعب الناس ولم يسقط بلاده في بؤرة التخلف والحرب كما فعلت طالبان. بل حقق تقدماً اقتصادياً متميزاً وأداءً حضارياً.
هذا في البدء ما اعترف به الإسلاميون من التيارات المختلفة، أكبرها الإخوان وأقلها السلفيون، حين استقبلوا أردوغان بهتافات بعضها حمل دعوة لأن يقود خلافة إسلامية بين مصر وتركيا، لكن أردوغان ما أن بدأ بشرح درس حزبه السياسي، قائلاً إن على المصريين أن يصوغوا دستورهم بمبادئ علمانية، وأن الدولة العلمانية لا تعني اللادينية، إنما تعني احترام كل الأديان، ووقوف الدولة على مسافة متساوية من جميع الفئات والأديان، حتى سحب الإسلاميون بساطهم الأحمر وقالوا له: أردوغان «خليك في حالك». بل واعتبروا نصيحته تدخلاً في الشؤون المصرية، وهم الذين كانوا قبلها بساعات يريدونه خليفة إسلامياً، فشرط الإسلاميين السياسيين بمعظم تياراتهم: «أنت كويس طالما أنك تشبهنا»، ومن يختلف معهم يصبح عدواً. ومن الجيد أنهم لم يكفروا أردوغان بعد، بل قرروا عنه أن ظروف تركيا تفرض عليه التعامل بمفهوم الدولة العلمانية، وأن التجارب لا تستنسخ، وأن مصر أحسن من تركيا. أردوغان هو من يمتلك التجربة الناجحة، وهم لم يثبتوا للعالم طوال أكثر من ثمانين عاماً مضت، سوى أن صراعاتهم كانت حول السلطة لكن باسم الدين، ورغم هذا خذلهم أردوغان، حين قال إن حزبه ليس إسلامياً لكنه إنسان مسلم وسياسي مسلم، قابل للخطأ لكن الدين لا يخطئ إشارة للفصل بين الدين والسياسة، وحين تحدث عن العلمانية كمنهج حكم قادر على وقف نزف التحيز الطائفي والمذهبي والديني الذي لا تزال الدول العربية تدفع ثمنه من دون أن تخرج منه بدرس مفيد.
انقلب الإسلاميون السياسيون الذين روجوا أنفسهم من خلال صورة حزب العدالة والتنمية على أردوغان، لأنهم لا يفهمون حديثه إلا من منطلق أيديولوجي ماضوي منغلق على ذاته يرفض التصحيح، وليس فهماً علمياً يسمي الأشياء بأسمائها وبوقائعها العملية. هم يريدون الخلافة الإسلامية وحكم لله، لكنهم لم يفسروا لنا كيف يمكن أن يحكم إنسان باسم الله وهو لا يوحى إليه بل يقرأ مثل كل البشر نصوص القرآن ويؤول ويجتهد. كأنهم يريدون أن يخلعوا ديكتاتوراً من البشر استغرقت الإطاحة به ثلاثين عاماً ليجلسوا هم على الكرسي ويحكموا باسم الله، فمن سيجرؤ على خلعهم حينها، لأنك لا تستطيع أن تقول لأحد يحكم باسم الله إنه مخطئ... يريدون أن ينتقلوا من حكم قمعي إلى قمع آخر لكن باسم الله. الغريب أن حركة مثل الإخوان المسلمين تمرست على الكر والفر، والخبث والدهاء في مسايرة الظرف السياسي تعلن في انقلابها على أردوغان النموذج عن هشاشة في التفكير إلا إذا كانت تعرف أنها من دون الشعارات الإسلامية التقليدية كالإسلام هو الحل خاسرة، أو أن فهمها للديموقراطية لا يتعدى تجييش وتعبئة الجماهير للفوز في صناديق الانتخابات ثم يكون هذا آخر علمها بالديموقراطية.